عام 2009، قبض على أربعة أميركيين من أصول أفريقية في مدينة نيوبورغ الفقيرة في ولاية نيويورك، بتهمة الإرهاب والتخطيط لتفجير معابد يهودية وقاعدة جوية عسكرية أميركية. حظيت العملية الأمنية لجهاز "أف. بي. آي" (مكتب التحقيقات الفيديرالي الأميركي) باهتمام واسع في أميركا وقتها، وصُوّرت كنصر رسمي جديد ضد الإرهابيين المحليين ودليل على جاهزية الأجهزة الأمنية في البلد وتفوّقها. فيما رَكبت التغطيات الإعلامية الأميركية لعملية إلقاء القبض على المتهمين، التي استمرت لأيام، وتابعت بعدها وبالحماسة ذاتها محاكمتهم، موجة رُهاب الإسلام في الولايات المتحدة، الذي يبدو أحياناً كنار مخفية بين قطع الرماد، تحتاج بين الفينة والأخرى الى رياح من الخارج لتشتعل بشراسة لأسابيع وحتى أشهر، ثم تعود لتخفت بانتظار الحادثة الجديدة.
الفيلم الأميركي "لدغة نيوبورغ" للمخرجين ديفيد هايلبرونر وكيت ديفيس، وإنتاج القناة الأميركية "أتش بي أو" التي عرضته أخيراً على شاشاتها الأوروبية، يعود الى الحادثة، مفككاً بتمهّل ورصانة شديدين معطياتها، باحثاً ما وراء العناوين الإعلامية الكبيرة عن تفاصيل مخفية، ليصل الى خلاصات تؤكد مرة أخرى، أن ليس كل ما نراه على شاشات التلفزيون يعني بالضرورة الحقيقة، وأن هناك الكثير المستور في قصص المتّهمين الأربعة لم يصل أبداً الى الاهتمام الأميركي العام. كما يوجّه الفيلم الاتهام ضمنياً الى السلطات الأمنية في الولايات المتحدة، التي وبسبب سياسات استخدام العملاء التي تسير عليها منذ سنوات، ترتكب أخطاءً فادحة لا تغتفر، بل إنها، وكما هي الحال في قضية الفيلم، دفعت أميركيين عاديين الى الإرهاب، ثم صوّرت القبض عليهم وكأنه انتصار مخابراتي عظيم.
الأفلام السرّية التي صوّرها عميل باكستاني للـ "أف بي آي" يدعى شهيد حسين، واستخدمت بعد ذلك في المحكمة كأدلة ضد المتهمين الأربعة، تأخذ أهمية كبيرة في الفيلم التسجيلي (تظهر الأفلام الرحلة التي قطعها العميل مع المتهمين، من محاولات تجنيدهم، ثم تحضيراتهم للعمليات الإرهابية، وحتى القبض عليهم في موقع قريب من المعابد اليهودية)، إذ كملت هذه الأفلام صورياً تاريخ علاقة العميل بالرجال الأربعة، فيما مثّلت من الجانب الآخر الدليل الأهم لدى الفيلم، وكذا المحكمة الأميركية التي أدانتهم. في موازاة الأفلام التي صوّرت بسريّة عمليات تجنيد المتّهمين الأربعة، يقدّم الفيلم شهادات عائلية مؤثرة لاثنين من المتهمين، الى جانب أخرى لمحاميهم، التي تكشف الكثير عن خلفيات الرجال، وتفسّر ضعفهم الذي قادهم الى السقوط في المؤامرة التي حيكت لهم.
قصة أربعة أميركيين من أصول أفريقية
تبرز الشهادات أن فقر المتهمين كان السبب الأهم الذي دفعهم الى هذه الوجهة المجنونة. ويقدّم الفيلم في مناسبات عدة، مشاهد بانورامية لمدينة نيوبورغ، والتي تبدو أحياناً مثل مدينة مهجورة، بعيدة تماماً من الصورة الشائعة لمدن الولايات المتحدة. ويركز على قصة "ديفيد"، أصغر المتّهمين الأربعة، والذي اعتنق الدين الإسلامي عندما كان في السجن، يمضي عقوبة قصيرة هناك. ويصف الأخ الأصغر لـ "ديفيد" طيبة هذا الأخير، وكيف كان يبكي عندما كان يزوره في المستشفى قبل سنوات.
هذه الصورة التي يرسمها الفيلم عن الشاب الأميركي، يعززها مشهد من الأفلام السريّة لعميل "أف بي آي"، عندما أبدى "ديفيد" قلقه من احتمال إصابة مدنيين عزل، كعمال نظافة ربما يكونون موجودين بالمصادفة في الطائرات الحربية في القاعدة العسكرية التي ينوون ضربها بالصواريخ. ويُحقق الفيلم في اتجاهين، الأول يركز على نفي الخلفيات الإرهابية للمتّهمين الأربعة، والذي يتبدى واضحاً من شهادات أهل المتهمين وأصدقائهم وإمام جامع المدينة الوحيد، ومنح وجه إنساني للرجال الأربعة. فيما يضطلع الاتجاه الثاني بتقديم مرافعة قانونية مدعومة بالأدلة، تدين عميل الجهاز الأمني وسياسات رسمية أميركية تبدو أحياناً وكأنها تتقصّد مجموعات إثنية معينة، للإيقاع بها، وكما حدث لمجموعة مدينة نيوبورغ.
المخرجين ديفيد هايلبرونر وكيت ديفيس
وإذا كان الانطباع العام عن الإعلام الأميركي من العقدين الأخيرين، هو المحافظة الشديدة والجنوح المتصاعد الى الإثارة على حساب الموضوعية والمسؤولية، وكما تبيَّن من تغطيات قسم كبير من هذا الإعلام لحادثة مدينة نيوبورغ، إلا أن الولايات المتحدة ما زالت قادرة على إنتاج صور مضادة، تتحدى الإجماع العام، كفيلم "لدغة نيوبورغ"، الذي يسير على خطى سيــنما تسجيلية شديدة الأهمية والجرأة، لا تخشى الولوج الى أكثر المناطق حساسية، متصدّية للروايات.
للتواصل معنا 